تأمل فى حال السيدة التى تساعدك على تنظيف منزلك أو زوجة حارس العقار. فأنت تعطيها ما طلبت هي بنفسها من أجر، بل وتزيد عليها فى المواسم، هذا عدا المأكولات ومساعدات دخول المدارس وبعض الملابس فى بداية كل موسم. بل والتضامن فى محنة كبيرة بالعطاء والتعاطف. هل تراها انتقلت من أسفل خط الفقر إلى أعلاه؟
هل توقفت أنت لحظة لتسأل نفسك لماذا تظل هي فقيرة؟ لست السبب في ذلك ولا هي.
ما هذا إلا مثال لتجسيد الفكرة: حدود قدرة الإنفاق فى الخير على تغيير الواقع. فليس المطلوب هو أن يمتنع الناس عن الإنفاق فى مجالات الخير. بل أن يكف الناس عن الاعتقاد بأن هذا النمط من الإنفاق يستطيع أن يقضي على الفقر أو يعالج المحتاجين على مستوى البلد. تلح على هذه الفكرة وسط كل تلك الإعلانات التى تدعو إلى التبرع لإنقاذ المرضى والمساكين والجوعى والأكثر فقراً. فمهما أعطيت من مساعدات لأبناء حارسة العقار لتغطية جزء من تكاليف دخول المدارس فلن تحسن من نوعية المدرسة التى يذهب إليها أولادها. وبالمثل، فإن أجرها الذي تطالب به هي نفسها يجب أن يظل فى حدود ما سوف ترضى أنت أن تدفعه، وإلا استبدلتها بـ«ست ستها»، وبقيت هي ملومة محسورة بعد أن فقدت فرصة توفير العيش لأسرتها. بل وعندما انتقلت حملات التبرع من مخاطبة الأفراد إلى كبرى الشركات الخاصة، زاد الأمر علي التباساً.
إذ الأكثر كفاءة، وهو المعمول به فى كل بلاد الدنيا، هو أن يدفع كل من الشركات والأفراد من ذوي الدخول المرتفعة ضرائب لكى تتولى الدولة الإنفاق على التعليم والصحة بحسب احتياجات كل منطقة وليس وفقاً للدوائر الانتخابية لصاحب هذه الشركة أو تلك. ولكن المعادلة عندنا تسمح بغير ذلك، رغم القوانين الحاكمة. ما يحدث عندنا بشهادة وزارة المالية هو «قنطرة الدفاتر.. يا ساتر يا ساتر». وفى المقابل تلقى هذه الشركة أو تلك بالفتات إلى جمعية خيرية ليظهر اسمها على شاشات التليفزيون. ولعل برنامجاً تليفزيونياً آخر ساعدني على إثارة المزيد من الأسئلة.
فقد شاهدت حلقة من برنامج باللغة الإنجليزية من دبى عن «التصدق للفقراء» وكان السؤال الذى يجيب عنه المارة فى الشارع: «هل تعطى حسنة/ Charity لفقير؟» وكانت الإجابة من كل أصحاب الجنسيات العربية بـ«نعم» وكل الأجانب بـ«لا». فهل الأجانب قساة القلب بينما العرب لا؟ ولأن الإجابة بالتأكيد لا يمكن أن تكون نعم، فلماذا كان هذا الانقسام الواضح فى الإجابات؟ فلنعد إلى حارسة عقارنا. لنتخيل وضعاً مختلفاً.
فلنتخيل أننا مثلاً فى ألمانيا حيث تنتمي حارسة العقار إلى نقابة الخدمات وهي نقابة تضم ضباط الشرطة وضباط الجيش وعاملي النظافة وممارسات البغاء وغيرهم ممن يقدمون خدمات للمواطنين الألمان. تلك النقابة تفرض حدا أدنى للأجر، وتتفاوض النقابة كل سنة بشكل جماعي مع أصحاب العمل على نسبة الزيادة السنوية لهذا الأجر. (لا تنطبق عملية التفاوض تلك على الغانيات، حيث يتفاوضن بشكل فردي لتحديد أجورهن، إلا أنهن يتمتعن بجميع الحقوق النقابية الأخرى). ويمتد التفاوض من أول العام وحتى شهر مايو بحد أقصى. فإذا لم يصل الطرفان لاتفاق، يصبح من حق العاملين أن يدعوا لإضراب للضغط على أصحاب الأعمال. بل وقد تتشكل أكثر من نقابة لمهنة واحدة، وهكذا يستطيع الفرد أن يختار النقابة التى يرى أنها الأكفأ فى تمثيل مطالبه والضغط من أجل تحقيقها. فإذا كان الحال كذلك، فهل ستلجأ حارسة العقار إلى الصدقة؟ وهل سيجد الساكن الألماني نفسه مضطراً للإحسان على حارسة العقار؟ بالطبع لا. فكلاهما يرى أن الأجر الذى يكفل لها حياة كريمة ولأبنائها حق لها، لا يتسول.
ولنبتعد عن ألمانيا، ولنذهب إلى دولة رأسمالية أخرى، لنذهب إلى البرازيل فهى دولة نامية. فهناك أيضا نقابة منتخبة كفلت الدولة نزاهة انتخاباتها، تمثل العاملات والعاملين فى المنازل. وهى تكفل لهم عقداً مكتوباً فيه الأجر الذي لا يجب أن يقل عن الحد الأدنى الذى تقبله النقابة، كما يدفع لها اصاحب المنزل التأمينات الاجتماعية، وللعامل أو العاملة الحق فى عطلة أسبوعية وسنوية، وحد أقصى ثمانى ساعات عمل تتخلها راحة غداء لمدة ساعة.
هذه الطريقة فى النظر لحقوق العباد هي ما توجد الفرق بين مجتمع يعيش على «الصدقة» فيعيش فقراء مواطنوه، ومجتمع تحكمه قواعد منظمة لعلاقات العمل، بحيث تحمي الأجير والعامل والموظف، أي الطرف الأضعف فى علاقة العمل، فتصبح الأغلبية من غير الفقراء. أي باختصار مجتمع تعمل فيه الدولة بجميع مؤسساتها على تحقيق حياة كريمة للمواطنين ومجتمع أدارت فيه الدولة وجهها عن واجبها فقام نفر من الناس مشكورين ليرتقوا هنا وهناك ما لا يرتق.
[عن جريدة "الشروق" المصرية]